top of page
Search
  • Writer's pictureKhalid Joraid

السجن الكبير والوطن الصغير


السجن الكبير والوطن الصغير

أذكر عندما كنت ادرس في كلية الشرطة، كطالب مستجد في السنة الأولى، أنني كنت أعيش بعض النشوة أثناء التدريبات التي كنا ننشد فيها أناشيد وطنية، وغالبا ما كانت تتلاشى بعد دقائق قليلة عندما يتجلى الواقع المرير في المحيط البائس، وأذكر أيضا أنني أخذت عهدا على نفسي عند نهاية أول فصل ألا أعمل بأجر أو بدون أجر لأي حكومة عربية حتى وإن حكمها نبي، وفعلا عدت في أول إجازة لي من الكلية ولم ارجع.

خلال السنوات الثلاثون التالية بدأت أصحوا من كذبة تلو الكذبة عن الوطن وعن التحرير وعن فلسطين، وتدريجيا لاحت أمام أعيننا أنا ومن على شاكلتي من الفلسطينيين الذين يعيشون في الشتات ويحملون الوثائق أو الجوازات المؤقتة أننا كما الوطن، جميعنا سجناء، فنحن سجناء في الشتات العربي وفلسطين سجينة المشتتين الصهاينة، لا أدري من الذي زرع في عقولنا وعقول أباءنا أن الوطن سيعود يوما. هذا الحلم البعيد جعلنا نقبل بالوضع الراهن ونستعبد بإرادتنا، وما هون علينا المصيبة أن الشعوب العربية كانت أيضا تشاركنا السجن من غير أن تعلم ونحن كنا في استضافتهم وهم سجناء، أليس هذا مثيرا للسخرية!؟.

صعب من هم أمثالي أن يعرفوا الحرية إلا بعد تجربتها على الأقل فمن مثلي من يعيشون في سجن كبير وأخذت منهم حريتهم بحجة الدين والبيعة والأمن والولاء والنظام دون علمهم، لن يستطيعوا أن يطالبوا بما فقدوه لأنهم اعتقدوا أن هذه هي الحرية وغيرها عبث ومزايدات وخيانة. حريتنا في إبداء الرأي وفي العبادة وفي الحياة وفي الزواج وفي الغذاء وفي الشراب وفي الدراسة وفي السفر وفي العمل وفي كل شيء قد سلبت منا منذ الولادة أي أننا ببساطة أصبحنا عبيدا.

إن كذبة الوطن الذي يحاط بخط على الخريطة ويعطى اسما أصبح أكبر أكذوبة يجب تصحيحها، فأنت عبدا للجغرافيا إذا سلبت حريتك وإن أعطيتها فأنت الحر وإن عشت على الهامش.

فإذا وجدت مكان تقول فيه ما تشاء وتعبد من تشاء وتأكل ما تشاء وتعمل ما تشاء فأنت هناك ... أنت في الوطن الذي تستحقه، وعندما تخطيء وتجد من يساعدك لتصحح مسارك وتنكسر وتجد من يرممك وتجوع وتجد من يطعمك وتخاف فتجد من يحميك فثم الوطن. الوطن هو الذي يجب أن يعطي وهو الذي يجب أن يبذل وهو الذي يجب أن يضحي من أجلنا وعندها نحن من يجب أن نشري أروحانا دفاعا عنه وفي الحقيقة نحن ندافع عن حريتنا التي تسمى بالوطن، لا أن نبذل أرواحنا دفاعا عن ملك جاهل أو رئيس فاجر اغتصب الوطن واستعبدنا كما تستعبد البهائم.

أليس هذا مثيرا للشفقة، أن تسخر الجيوش والحكومات والوزارات حتى تحمي الملك العفن، أليس هذا نوع من أنواع العبودية؟ أليس هذا العجز بعينه، ومن أجل عصابة من المستنفعين يضحي الشباب بأرواحهم في الثغور ويسجن المعارضون ويعذب المشاكسون ويغضب الوعاظ ويفتي المفتون.

أعترف أنني أعيش حالة من اليأس كما يعيشها المعتقلون بعد أن فقدوا الأمل في الخروج، وكنت أحدث نفسي دائما بأن العرب جميعا سيذهبون إلى مزبلة التاريخ ولا زلت لا أشك في ذلك، فلا دين ولا أخلاق ولا سياسة ولا أدب ولا علم ولا عمل ولا شيء على الإطلاق، مجرد بعض المباني الفارغة والعقول الفاسدة والاجساد العارية. إلا أنني توقفت وسألت نفسي هل هناك طريق للرجوع والنهضة الحقيقية؟ وبدت لي للوهلة الأولى اعتراضات عديدة كلها مليئة بالسواد عن وضع الأمة العربية، بحثت عن سبب يدفع أملا للرجوع، فلاحت أمامي مبررات الهبوط، فلدينا أكبر مدينتين للبغاء برعاية حكومية كاملة في العالم، ولدينا أكبر مختلسين لموارد شعوبهم، أكبر نسبة جهل، أقل مستوى تعليم، أعلى معدلات النفاق، أعلى نسب الشذوذ الجنسي، أعلى نسب الجريمة، والكثير الكثير من التفوق السلبي أو التقهقر، " التقهقر: حسب تعبير أ. ابراهيم البليهي هو أسواء من التأخر حيث تتجه عكس الطريق"، وبت احفز عقلي على إيجاد إيجابيات تنهض بالأمم وتعيد المجد، والأهم أن تعيد الإنسان المفقود ولكني فشلت حيث لم أجد غير المال والموارد الطبيعية فقط والتي تنفذ وتبلى مع الوقت، وعاتبت نفسي ... ألا يعتبر هذا تحاملا وجلدا للذات وبدى لي أنها الحقيقة المرة بعد أن سألت نفسي ماذا لو عادت فلسطين، كما تنبأ بسام جرار في عام 2022م، من سيحكمها وهل ستملأ السجون بالمعارضين والشوارع بالجاهلين والمساجد بالمنافقين وباسم الدين سوف تسلب الحريات ... وبنفس معدلات الدول العربية من نسب الفشل والجهل ستكون فلسطين لبنان أخرى أو سورية ثانية أو نسخة أردنية مكررة مع تقديري واعتذاري لشعوب هذه البلاد.

وبعد كل هذا التفكير الكئيب طرحت سؤالا عن الحلول وماذا لو وضعت في يدي عصاة سحرية تفعل ما آمرها به فما عساي فاعل؟ وطرأ على بالي العنصر الوحيد الذي يجب تغييره وفي أحسن الظروف تطويره وهو الإنسان، المواطن، البني آدم الذي يعيش السجن المركب في وطنه المختطف وأن أية فكرة للتحرر والانطلاق يحب أن تبدأ من الداخل ومن الإنسان ولكني لم أعرف الإجابة أو عرفتها ولكني لم أر الطريق، فوصفة الإنسان المنتح والمتعلم والمبدع تكاد تكون متوفرة على بعد نقرة على الفأرة ولكن تطبيقها قد يكون بمثابة حرب طاحنة ودمار شامل في ظل الظروف الحالية والتجارب الراهنة.

أيقنت الآن أن الحل فردي وليس جماعي، فتسلط القوى السياسية والعسكرية على أوطاننا ومواردنا وعبث القوى الخارجية بكل مقوماتنا جعل من الحل الجماعي شيء شبه مستحيل، فالسارق لن يسعد بوجود جهاز أمني معتبر والظالم لن يهنأ بوجود نظام قضائي عادل والكاذب و المنافق لن يتعايشا مع مجتمع أكثر شفافية، وبات تغيير المجتمع أكثر صعوبة من تغيير البشر، لأننا للأسف أكثرنا سارق أو ظالم أو منافق والفساد أصبح كالهواء لا بد من تنفسه لكي نعيش.

وذهبت بعيدا في التفكير في الحل الفردي وصعوبة الصعود بالأفراد لكي يصبح الفرد نموذج للأخلاق والعلم والشفافية والإخلاص والوطنية وقلت حالما ماذا لو أخذنا مليون شخص وأخضعناهم في دورة طويلة الأمد منذ الطفولة إلى منتصف العشرين ومن ثم أعدناهم إلى أوطانهم ليقوموا برسالة التأثير على المجتمع دون أي اطماع أخرى ... ولكن سرعان ما أفقت من الحلم.

ووسط هذه الأمواج من الأفكار الصاعدة والهابطة تذكرت قول الله تعالى " لن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم:، وقوله تعالى "عليكم أنفسكم لن يضركم من خذلكم" ورأيت أن الفرد هو العنصر الوحيد المطلوب للنهوض بالأمم وكلما كان الفرد الصالح من النخبة كلما تسارعت النتائج، وأيقنت أن وصفة الفرد تبدأ بالأخلاق أولا تم بالمعرفة وتنتهي بالعمل، أما الوطن فهو تحصيل حاصل فمكة بفسادها سقطت أمام صلاح المهاجرين والأنصار.

هذه الوصفة البسيطة هي التي تصنع الأمم وترتقي بالشعوب إنها الأخلاق بل إنها مكارم الأخلاق، وكأنني فهمت الأن حديث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام

"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"،

ومن بداية الصدق ومرورا بالأمانة والوفاء والعدل والانضباط والبر الى إماطة الأذى عن الطريق ... يقع الوطن،.

فرسالتي إلى شعوب البلدان العربية التي عاشت الثورة والى البلدان العربية الأخرى التي لم تثر بعد.

ثوروا على أنفسكم أولا ثورة تعيدكم إلى مكارم الأخلاق وتشق طريق المعرفة والالتزام والعمل الدؤوب وعندما يصبح أصحاب الأخلاق والمعرفة والعمل هم الأغلبية على المترفين في المجتمع الواحد فلن تحتاجوا إلى ثورة مدنية لإسقاط النظام لأنه لن يعد هناك نظام فاسد.

فريسكو - تكساس - الولايات المتحدة

29 مايو 2019

خالد جريد

49 views0 comments

Recent Posts

See All

الكفر الحلو

في أحد الأيام كان موسى عليه السلام يسير في الجبال وحيدا عندما رأى من بعيد راعيا، كان الرجل جاثيا على ركبتيه ويداه ممدودتين نحو السماء يصلي، غمرت موسى السعادة لكنه عندما اقترب منه دهش عندما سمع الراعي

العقاد، الرومي ابن الرومي

سمعت عن جلال الدين الرومي كثيرا ولكني لم اقرأ له شيئا وكنت كلما اسمع عنه ازداد شوقا لمعرفته، علمت أنه شاعر الحب ومثال التسامح تنسب له الطريقة الصوفية المولوية التي اشتهرت بدراويشها والرقصة الدائرية ال

bottom of page